جيم كرو والعنصرية العرقية

نشر في صحيفة مكة*

“قد حاول بعض المؤرخين في القرن الـ18 وفي القرن الـ19 أن يبرهنوا على وجود عرق متفوق هو العرق الأبيض الذي يمتاز عن العرق الأسود في الشكل والفكرغير أن أحد كبار أساتذة الطب المتخصص بالدم يؤكد عدم إمكان وجود عرق صاف وأن الاختلافات الاجتماعية والثقافية بين رجل صيني وآخر مالي وآخر فرنسي أكثر بكثير من اختلافاتهم التكوينية العائدة إلى العرق واللون”
هذا كان جواب طاهر بن جلون لابنته حين سألته عما لو كان هناك عرق يتفوق على عرق آخر
وحين كانت أمريكا تمارس العنصرية العرقية بشكل واضح ضد الأمريكان أصحاب البشرة السوداء في الفترة ما بين 1867 و 1965، تحت ظل نظام التفرقة والعنصرية العرقية «جيم كرو»، هذا النظام والقانون الذي حرم الزنوج حقهم في ممارسة الحياة اليومية، حيث لم يكن من حق أحد منهم اختيار الحياة التي يريد بل كان لزاماً أن يقيموا في أحياء معينة، ويدرسوا في مدارس حددت لهم مسبقاً، حتى وسائل النقل لم تكن متاحة لهم بشكل كامل
لكن تفوقت السيدة المناضلة «روزا باركس» في الدفاع عن موقفها ضد العنصرية التي مورست عليها بشجاعة
فالسيدة باركس كانت شرارة لمسيرة نضالية بلغت 381 يوماً للدفاع عن حقوقها وحق كل أسود، حدث ذلك حين رفضت ذات مرة تلك السوداء أن تترك مقعدها في الباص لرجل «أبيض» مخالفة بذلك القانون، عوقبت وغرمت بسبب ذلك ثم تلا تلك الحادثة عدة مسيرات وإضراب أجبرت وسائل النقل لتعديل القانون بعد الخسارة التي لحقت بها، و إكراماً للسيدة باركس لا تزال الحافلة موجودة حتى الآن في متحف هنري فورد للسيارات
ونستطيع القول أن الدكتور ديفيد بيلجرام – من أصول أفريقية- أستاذ علم الاجتماع في جامعة ميشيغان قد تفوق مرة أخرى في 2012 لتأسيسه أول متحف يتحدث عن تاريخ تلك الفترة بكل ما كان فيها من ظلم ثم نضال ثم محاولات للتسوية و أخيراً الوصول للرئاسة (رئيس دولة أسود)، وقد أطلق على المتحف اسم (جيم كرو) نسبة لتلك الحقبة وذلك القانون، يعرض في المتحف التاريخ وأشكال تلك الممارسات التي اختزلت في تذكارات وملصقات بدأ جمعها الدكتور ديفيد وهو لا يزال في عمر 12 سنة
تم تقسيم المتحف لعدة أجنحة بداية بملصق كبير يمثل شخصية «جيم كرو» التي مثلها رجل أبيض بصبغ وجهه بلون داكن ليطلق على ذاته «جيم كرو» كجزء من مجتمع أصحاب البشرة السوداء مع كلمات أغنية ساخرة أصبحت رمزاً ولفظاً ينعت به أصحاب البشرة الداكنة
حتى أن قانون التفرقة العنصرية قد رمز له أيضاً «بجيم كرو”
أما عن القسم الثاني فقد مثله في شجرة كبيرة وعلى جذعها حبل، حيث كانت تمارس العقوبات كالشنق وشتى أنواع التعذيب والعنف بربطهم في جذع الأشجار
وفي القسم الثالث علقت قصاصات لكاريكاتير ودعايات ومشاهد كرتونية لخصت سخرية المجتمع الأمريكي بتلك الفئة أي المجتمع الزنجي
ثم في القسم الرابع عرض الدكتور ديفيد وسائل المقاومة كعرضه لصور المناضلين وأفعالهم مثل مالكم اكسومارتن لوثر كنج
وفي القسم الخامس مثل مراحل إنهاء تلك القوانين «جيم كرو» بعرض صور لكثير من العلماء والسياسيين والناجحين من أصحاب البشرة السوداء ليصل لاستعراض وصول أوباما للرئاسة، ثم أسهب الدكتور ديفيد وقال: إن إنهاء تلك القوانين ساعد على تغيير سلوك المجتمع بطريقة أفضل
وأخيراً ينتهي المتحف عند قاعة صغيرة تتسع لما يقارب 20 شخصا للحديث والمناقشة عما تم مشاهدته وعرض وجهات نظرهم عن حياتهم المستقبلية كمجتمع أمريكي واحد (أبيض وأسود)
وجه الشبه كبير بين السيدة باركس والدكتور ديفيد رغم طول المدة التي تفصلهم والظروف التي عاشها كلا الطرفين إلا أن كليهما يدفعان بالظلم بعيداً، أحدهم كان الفتيل والآخر هو الوريث للشعلة، فوجود متحف يلخص تلك الحقبة التاريخية لأجيال حاضرة و قادمة يعني أن يقول أصحاب البشرة السوداء: إن نضالنا كان الجزء الرئيس في استعادة ما سلب منا من حق وإن تاريخنا في الكفاح ما زال مستمرا.

حكايا من قلب أوروبا

* نشر في صحيفة مكة

أتذكر هذه المعلومة جيداً حين حكاها لي العم السويسري «هايني» ونحن في طريقنا للتوغل داخل القرية السويسرية الصغيرة «أبانزل» قال: أبانزل تأخرت جداً في منح حق المرأة في التصويت، وتعتبر في التاريخ الأوربي هي الأخيرة. الحقيقة أن المعلومة هذه أخذتني للبحث عن تفاصيل هذا الحدث التاريخي، ربما لأني كنت أعتقد أن تسلسل الأحداث التاريخية في أوروبا وقع متسارعاً خاصة وأن الكثير من المعاهدات وقعت بعد الحرب العالمية الثانية، وتم تفعيل الكثير من المنظمات فلم أدرك أن سويسرا وهي التي تقع في قلب أوروبا تكون الأخيرة، وتكون هي الأكثر تمسكاً بقيود العادات من غيرها، لكنها كانت هذه الحقيقة، فالمرأة في قرية أبانزل لم تأخذ حقها في التصويت إلا خلال عام ١٩٩٠ وذلك بعد فرنسا بما يقارب ٤٦ سنة.

قامت المرأة السويسرية بمحاولات عدة مطالبة بحقها وذلك بإنشاء حملات للمطالبة ببعض حقوقها حتى إن شعار أحد الحملات كان عبارة عن نقطة سوداء في منتصف قارة أوروبا وذلك دلالة على عدم النضج السياسي للمرأة في قلب القارة -أي في سويسرا- مقارنة بالدول المحيطة بها كألمانيا وفرنسا. وفي ١٩٥٩ تم عمل استفتاء عام في سويسرا عن حق المرأة في التصويت وتم فرز النتائج حيث صوت ٦٧٪ بلا و ٣١٪ بنعم.
ربما كان هذا التصويت مخيباً لبعض النساء في ذلك الوقت، فأول من بادرت بمحاولة جادة كانت الحقوقية «كاترينا» وذلك عبر وضع صندوق اقتراع منفصل عن صندوق الاقتراع الذي وضع للرجال، تشجيعاً للمرأة السويسرية في ممارسة حقها إلا أن أصواتهن لم تؤخذ بالاعتبار لأن القانون لم يعطهن في ذلك الوقت هذا الحق بعد.
أما عن قرية أبانزل تحديداً فقد تم رفض ٩٥٪ من أهلها حق تصويت المرأة على مستوى المناطق رفضاً تاماً وقاطعاً. لكن هذه الفكرة لم تدم طويلاً في باقي المناطق -الكانتونات- فقد أُجري بعدها تصويت وكانت نتائجه عكسية، كان صوت غالبية الشعب السويسري الذي في الحقيقة لم يزد عن ٦٦٪ (بنعم)،و هذا يعني أنهم أخيراً قد تقبلوا فكرة حق المرأة في التصويت. ومن خلال ذلك نستطيع القول إن المرأة السويسرية أخذت حقها في التصويت رسمياً في ١٩٧١.
لكن ماذا عن أبانزل التي ذكرنا بأن ٩٥٪ منها قد عارضت هذه الفكرة؟ حتى بعدما تم تفعيل هذا القانون رسمياً كان غالبية رجال هذه القرية لا يزالون يرفضونه وكانوا يعتقدون أن باستطاعتهم إلغاءه مع الوقت وتم قسراً منع نساء أبانزل من مزاولة هذا الحق لفترة ليست بالقصيرة. و بسبب طول المدة في عدم منح نساء أبانزل حقهن في التصويت خلال الاستفتاءات على مدار سنين طويلة بالنسبة لما جاورها، قامت نساء أبانزل بالمطالبة بهذا الحق والدفاع عنه بأنفسهن ثم تم منحنهن إياه من قبل الحكومة، وبناء على ذلك تم تعديل الدستور وذلك بتفسير العبارة القانونية «كل مواطن» إلى «نساء ورجال» أي أنه تم منح الحق للنساء والرجال بطريقة متساوية في التصويت. وهذا يشرح و يفسر ما قاله مالك بن نبي: «إن الحقوق ليست هدية تعطى ولا غنيمة تغتصب، وإنما هي نتيجة حتمية للقيام بالواجب، فهما متلازمان، والشعب لا ينشئ دستور حقوقه إلا إذا عدل وضعه الاجتماعي المرتبط بسلوكه النفسي حيث أنه لا يحق لشعب مطالبته بحقوقه، ما لم يقم هو بواجباته.

التانغو: من بيوت البغاء إلى العالمية

tango2

* نشر في ساقية

رقصة التانغو في أذهاننا عبارة عن لوحة أرجنتينية يرسمها رجل أنيق يرتدي البدلة السوداء يراقص امرأة في كامل أنوثتها وأناقتها متشاركين اللحظة في صالون ارستقراطي فخم، ينسدل من سقفه ثريات مرصعة بالكريستالات ولها سلاسل مذهبة ، أو ربما أضواء خافتة تسلط فقط على تلك الأجساد التي تحكي قصة حب على إيقاعات معينة تاركة للأجساد حرية التعبير عن ذاتها بتبادل الحركات والإلتواءات وحتى الوقفات لتحكي وتروي قصصاً بخفة متباينة ونمط بديع ، في حين أن مجموعة كبيرة من عشاق تلك الرقصة يجلسون متحلقين وراء الكواليس وخلف الأضواء بصمت حتى تسحب الموسيقى نفسها وتتوقف، فيختفي الظلام عنهم لتكون نقطة النهاية بدلا من اسدال الستائر هي صفقات الحاضرين، وارسال ذبذبات سعادتهم عبرها امتنانا، ليرد الراقصان الإمتنان بلمعة في العينين وابتسامة.

لكن الصدمة وكل الصدمة حين تبدأ في القراءة عن التانغو لتكتشف بدايتها فيصيبك الذهول من تلك النقلة النوعية وتطورها.

بدأت موسيقا التانغو كما تقول أ. كارمن:

منذ 1880، سادت الموسيقى الهجينة العاصمة الأرجنتينية، بوينس آيريس. ويومها كانت المدينة في طور التوسّع والتمدد. وارتفع عدد سكانها من 210 آلاف نسمة، في 1880، إلى مليون نسمة ونصف في 1910.
في أثناء ثلاثة عقود، خلفت موجات الهجرة الكبيرة من أوروبا الى الارجنتين أثراً كبيراً في اللغة والعادات والتقاليد الموروثة من حقبة الاستعمار. وتدفقُ المهاجرين، ومعظمهم من الرجال، وقد أسهم ذلك في انتشار البغاء. وبلغ عدد فتيات الهوى نحو 30 ألفاً. 
وفي 1914، استقبلت العاصمة الأرجنتينية ربع سكان البلد. وحملت المضاربات العقارية المترتبة على التوسع العمراني، المهاجرين على النزول في أحزمة بؤس أو عشوائيات، وعلى الاقامة في مبان تطل شققها على باحات داخلية. وحضنت الباحات هذه علاقات التكافل والتضامن والاختلاط. وكانت هذه «البؤر» بوتقة انصهار الثقافات. واستقى التانغو كلماته وشخصياته منها.

رقصة التانغو وسيلة دفعت الكثير من الرجال بعد أن زاد عددهم عن النساء بالترويج لذواتهم عن طريق اتقان الرقصات فبذلك يشد انتباه النساء للمشاركة ليس لأجل الرقص ذاته بل لأجل المرأة والعلاقة الجسدية، فكثرت في تلك الفترة بيوت الدعارة لعدة أسباب ومن بينها اليأس فذكرت أ. كارمن :

التانغو هو رقص الافكار الحزينة، هي أشبه بأحزان راقصة. هو رقص التأمل في المصير البائس. وعلى خلاف الموسيقى اللاتينية الفرحة، ينقل التانغو معالم هويتهم الأساسية، مثل الإحباط والحنين والنقمة، ومعنى الوجود المأسوي.

وأولى الإشارات إلى التانغو الحديث تعود إلى سبعينات القرن التاسع عشر. وحاكى رقص التانغو مسيرة عسكرية اسمها «أل كويكو»، أي بيت البغاء. وخطوات هذه الرقصة مليئة بالإيحاءات. فالجنود يرقصون مع فتيات «الثكنة».

ثم بعد الحرب انتقل هذا الفن وانتقلت تلك الموسيقى وغزت صالونات الارستقراطيين في مدن عريقة كباريس وتطور التانغو في معناه وفحواه الذي كان لصيقا ببيوت الدعارة ليصبح مظهرا من مظاهر الترف حتى لا تعود طبقة برجوازية لا يعرف أفرادها التانغو وربما منذ تلك اللحظة تغير مفهوم رقص التانغو وتغيرت أغراضها وباتت ملجأ الحب ووسيلة المحبين ذات الطبقات العريقة لينسجوا عبرها رواياتهم، فتقول أ. كارمن:

غزا التانغو الصالونات الأريستوقراطية والشعبية في أوروبا، وبلغ روسيا القيصرية، في عهد نقولا الثاني. وفي بوينس آيريس، انتقلت الرقصة من بيوت الدعارة إلى الأماكن الراقية. وبلغ الشغف بموسيقى التانغو ذروته بأوروبا عشية الحرب الأولى، وحذفت منها الكلمات التي تخدش الحياء البورجوازي. وفي 1917، كتب كارلوس غارديل أغنية «ليلتي الحزينة» ولحنها. وغلبت على الاغنية مفردات عاطفية، وغاب عنها عالم البغاء ومفرداته. ومايؤكد كلماتها هو فرناردو الذي ذكر في مقاله مراحل تطور التانغو ومنها هي أن مجموعة من محترفي رقصات التانغو الأرجنتينية بعد الحرب أقاموا جولة حول العالم يؤدون رقصاتهم بإحتراف حتى صار لها حيزها من الشهرة والمعرفة.

أما عن الموسيقى ذاتها فهي تعتبر من جذور أسبانية أوروبية ثم تطورت وتغيرت حتى أخذت بعض مظاهر موسيقى الجاز ببعض إيقاعاته، وقد قيل أن فرق التانغو تتكون من ستة عازفين يعزفون على عدة آلات أساسية وهي الكمان والبيانو والباص والأكورديون والهرمونيكا إلى جانب إضافة الفلوت أو الكلارينيت يقول فرناردو  أن الأوربيين والأمريكان أعادوا صياغة موسيقى التانغو وكان من أهم أولئك المحدثين هو بيزولا piazzolla حيث جعلها أكثر ملائمة للطبقات الوسطى فقد بسطها وأضاف بعض جمل موسيقية من الجاز بحيث تصبح وسيلة ليستمتعوا بها وأداة للرقص بعد أن كانت الموسيقى الكلاسيكية للإستماع فقط

الموسيقى وتاريخها هي روايات الشعوب السياسية والإقتصادية والإجتماعية أيضاً، هي حياة الشارع وانعكاس الوقت ومرآة الشعب و هي الوثيقة المفصلة لردود الأفعال الشعبية البسيطة التي غدت مع الوقت رمزا ثقافياً

وهنا بعض المقاطع للمشاهدة

http://www.youtube.com/watch?v=5PXgmNrIJqI

للإستزادة :

التانغو أول موسيقى تعولمت من غير أن تنفك رمزاً للأمة الأرجنتينية
عاشق التانغو
E L  T A N G O at a glance
Dancing to the music of love in Buenos Aires