نفس تواقة.. وقلب ذو شغف

* نشر في صحيفة مكة

يقول الكاتب فلاديمير نابوكوف: «أبدأ يومي بالعمل وقوفاً في غرفة المكتب، وعندما تترك الجاذبية الأرضية أثرها على مؤخرتي أجلس على كرسيي المريح ذي الذراعين أمام طاولة الكتابة. أكتب حتى تترك الجاذبية الأرضية أثرها على عمودي الفقري وأتمدد على أريكة في زاوية المكتب». لا يحدث ذلك مع شخص ما لم يكن ممتلئًا شغفاً لما يفعله ويقوم به، أي ينسى نفسه وسط انغماسه في عمله إلى أن يئن جسده دون روحهِ.
يقول باولو كاويلو «الشغف والحماس يجعلان المستحيل ممكناً». لنختصر الحديث ونقول إن المعجزات لا تتحقق إن لم نمتلئ بالحب. فقد عرّف المعجم الوسيط معنى الشغف بأنه الحب والولع، ومعنى التوق هو الاشتياق للشيء، فالشغف والتوق هما تركيبة طبيعية لكل قلب، وهنا أتكلم عن المعنى الواسع لهذه الألفاظ المحددة
حين تعرف كل نفس ما تشتاق إليه ويعرف كل قلب ما يحبه من عمل، فإن مستوى الإنتاجية سيزداد، فالمرء بطبيعته يتعبه الكسل والفراغ أكثر من الانهماك في عمل ما يحبه، إلا أن الفكرة المتداولة التي يعتقدها كثير أن العمل هو الشيء المنهك والالتزام به يعني أن نتجرد من الحياة، وأن نكون أشبه بأجساد تعمل دون روح
فكل عمل لا تشعر حياله بالارتباط ولا يكون جزءا من قلبك لا يعول عليه، إضافة إلى أنه يشغل حيزاً كبيراً منك دون فائدة مرجوة، فلا مخرجات بقدر المتوقع
الشغف هو طريق الإبداع، لأن الحب هو حالة شعورية تستدعي الابتكار والتجديد، لتظل العلاقة متدفقة وتسير في مسارها الصحيح
قولبة الشخص واحتكار عقله وإمكاناته بإطار معين داخل حدود معينة هي كأن تسد شريان الحياة بين القلب والعقل، فالشخص لا يستطيع أن ينتج بفاعلية ما لم يجد بيئة محفزة وعملاً يخترق شغاف قلبه ويسكنه. يقول بابلو نيرودا «ميت من يتجنب الشغف.. ولا يجازف باليقين في سبيل اللا يقين من أجل أن يطارد أحد أحلامه» اقتحموا الحياة ولا تقفوا في أماكنكم بانتظار معجزة ما أن تحدث. في المجازفة إنقاذ للحواس، وتفعيل للإمكانات المستودعة في داخلك، فالخالق قد خلق داخل كل منا شغفاً لا يكتشف عبر الخمول والكسل واللاشيء بل بطبيعة الحال هو أن تكون في حالة بحث مستمرة عما تحبه وليس فقط عمن تحب. فوقود الحياة هو الحب مهما حاولنا حصره في شيء واحد ومهما حاولنا تقييده يظل متسعاً فاسلكوا الطرق المحتملة وغير المحتملة للوصول.
يقول باولو كاويلو : «ثمة أناس كثيرون يخافون من الشغف، لأنه يدمر في طريقه كل ما يتعلق بالماضي» فالشغف قد لا يأتي في مرحلة متقدمة بل بعد أن تجرب كثيرا من التجارب المختلفة في هذه الحياة ومهم أن تجرب وتفشل، أو تنجح تلك النجاحات التي لا ترضيك، وتستمر وتواصل التجربة كأن تقرأ كثيرا عن مختلف المجالات وتعيش حيوات آخرين لتستشف ذاتك عبرهم وتفهم كيانك خلالهم وتجد شغفك الذي تستمده خلال تراكمات تجاربك الخاصة، وما إن يأتي ذلك الشغف وتأتي تلك اللحظة التي يتمكن فيها «الشغف» منك حتى تعيد كل ترتيباتك وأولوياتك لتصنع ما لم يصنعه أحد وتتفرد. فالماضي لا يعود حاضراً فيك حين يصبح الشغف هو الحياة.
قال الخليفة عمر بن عبدالعزيز «إن لي نفساً تواقة، وما حققت شيئاً إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبدالملك فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن تاقت نفسي إلى الجنة فأرجو أن أكون من أهلها»

لماذا يكون الماضي مهماً.. بينما اللحظة أهم

* نشر في صحيفة مكة

يقول إيكارت تول:“الاستسلام ظاهرة داخلية صرفة
هذا لا يعني أنه على المستوى الخارجي لا تستطيع أن تقوم بفعل وتغيّر الحال
في الحقيقة، إنها ليست الحالة العامة التي تحتاج أن تُقبل عندما تستسلم، لكنها الجزء الصغير المسمّى الآن
”لنفترض لو أن التسليم هو جزء من ممارسات الحياة اليومية، فإن الصعوبات أو الإخفاق أو مرحلة الفشل في اللحظة التي تكون فيها مدركاً لذلك الفشل تدفعك لتنهض منها بقوة التسليم، أي تُسِقط عنك كاهل ما قد حصل لتكون بذاتك ووجودك كله في الوقت، والزمن، واللحظة الراهنة، إن الاستسلام أو التسليم هو طقس داخلي واعٍ حيث يمر الفشل عليك ثم يصبح ماضياً تستقرئ منه مستقبلاً يكون فيه الوعي هو المحور الأساسي لقصد الهدف
ذكر الدكتور فتحي التريكي بأن عالم الحياة اليومية هو «التجربة والعلاقات الإنسانية التي نتعامل معها ونعيها من خلال أذهاننا وحواسنا» إذا فالنمط اليومي هو نمط الأحداث التي تحدث حيث يكون الشخص فيها واعياً ومدركاً وحاضرًا ذهنياً فتتشكل عنها تجاربه الشخصية وعلاقاته بالأشياء والأشخاص لتصبح طقوساً منتظمة لفعل الحياة
نتعرض خلال حياتنا اليومية -لأننا جزء من الواقع- للكثير من الضغوطات مثلاً إخفاق في اختبار أو تجربة أو ربما مشادة مع زميل في العمل أو قد يحدث أن تتشاجر مشاجرة كبيرة مع أحد إخوتك أو أن تنفصل عن زوجك، هذا إلى جانب أحداث خارجية تطرأ فجأة دون سابق إنذار فتُحدث فيك اضطراباً، إن مجريات اليوم الطبيعية هي ذلك النمط الذي لا يحدث كلياً وفق تعاملنا الوحيد مع الأشخاص والأشياء بل لكل فعل تقوم به مع شخص هناك رد فعل يقابله، قد تقبل ذلك الرد فتتحول لمرحلة أخرى، أو قد تنتقل لمرحلة دون القبول، حيث تكون غير مستقرة، هنا تأتي طقوسنا اليومية تلك التي نصنعها لذواتنا مكافأة لنا أو تحفيزاً، أو ربما لتحدث التوازن الذي نريده ليس للاستقرار بل للتمكن وللعبور من مرحلة الضيق إلى الاتساع بسلاسة
مثال على ذلك: قراءة مجلة معينة يوميًا أو دورية معينة شهريًا أو حتى متابعة مسلسل أو برنامج بشكل مستمر، وقد يصل الأمر لطقوس أبسط من ذلك كأن تختار كوب قهوتك المفضل وتصنع قهوتك المحببة لترخي أعصابك وتأخذ نفساً جديداً لمواصلة الحياة
هنا في اللحظة التي تقرأ فيها لكاتبك المفضل أو تشرب فيها قهوتك المحببة لا يجب عليك إلا أن تغرق في تفاصيل الكتاب والنص الذي بين يديك لا أن تجذب كمغناطيس ما حصل أمس مع مديرك أو ما قد سيحدث في مشروعك غداً، هي تلك اللحظة التي تذوب فيها أنت بوعيك داخل الكتاب، قد تملأ أو تعيد شحن الضعف الذي يعتريك من ذلك الموقف فتكون أدركت بذلك التسليم، ومنحت ذاتك فرصة لمواصلة الحياة، عبر اللحظة أو الزمن المختزل فيها، واللحظة حقاً هي ما يمهنا و هي ما يكثف إحساسنا ويرسم معالم جديدة لشكل الحياة اليومية التي تصبح نمطاً
ثم إنه لا يجب الاكتفاء بطقس واحد أو اثنين بل إن إضافة طقس جديد بين فينة وأخرى ثم تحويله لممارسة تصبح مع الوقت عادة تصقل بها اليوم والذات، و يتحسن بها وعبرها المزاج، وينضج بها الفكر والوعي
يقول ايكارت تول: “إذا كنت لا تستطيع الاستسلام، تصرّف فوراً
تكلّم أو افعل شيئاً ما لتحدث تغييراً في الوضع – أو انتقل منه
كن مسؤولا عن حياتك
لا تلوث وجودك الداخلي الجميل والمتألق ولا تلوث الأرض بسلبيتك”.

المنفى: آخر جذور أندلسية

* نشر في صحيفة مكة

المنفى لا يشبه الهجرة، فالهجرة قد تكون نابعة عن إرادة الشخص للبحث عن سبل حياة أخرى أكثر مما هي متاحة له حيث يقيم، لينتقل بكامل وعيه وإرادته وحسب إمكاناته لبلد آخر، فقد قال إدوارد سعيد في كتابه تأملات حول الحياة في المنفى، إن المنفى هو «هوّة قسرية لا تنجسر بين الكائن البشري وموطنه الأصلي، وبين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلّب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع
وأيا كانت إنجازات المنفيّ، فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد»
قد لا يقتصر النفي على أشخاص معينين بل قد يتسع ليشمل أقواما ينفون بسبب اضطهادات سياسية، فيطردون من بلدانهم تاركين خلفهم إرثهم وحضارتهم، ليقيموا في بلدان أخرى اضطراريا، محاولين بذلك خلق حياة جديدة، مهما كبلهم اليأس والخوف والحنين
في 1609م اقتلعت آخر جذور أندلسية مسلمة من إسبانيا – الموريسكية- لتطرد ويكتب عليها النفي بعد أن أعلن مرسوم ملكي في 1502 م يخير فيه المسلمون بين اعتناق الديانة المسيحية أو النفي ومغادرة إسبانيا
مما اضطر كثيرا من المواطنين المسلمين للتظاهر بالمسيحية تجنبا للتعذيب والاضطهاد من قبل الحكومة والبقاء في وطنهم
فالموريسكيون هم المسلمون الذين أخفوا دينهم في صدورهم وأقاموا شعائرهم في منازلهم سرا، وكتبوا القرآن الكريم باللغة العربية مشروحا باللغة الخميادية وهي اللغة التي اتخذها الموريسكيون بعد أن مُنعوا من استعمال لغتهم العربية فعرفت «ألخميادو» على أنها لغة رومانية قشتالية تكتب بحروف عربية
وللموريسكيين إرث أدبي إلى جانب الحضارة العمرانية الموجودة حتى الآن في نواحي الأندلس، ففي جامعة بورتوريكو يوجد أكبر مختبر للأدب الألخيميادو، أنشأته العالمة «لوثي لوباث بارلت» التي نشرت نحو 20 كتابا تتحدث عن الأدب الموريسكي ومجموعة لا تقل عن 22 باحثا نشروا الكثير من المخطوطات والأدبيات التي تحدثت عن معاناة الموريسكيين
يقول د
عبدالجليل التميمي عن فترة التهجير القسري والحرق والتعذيب الذي لحق بالمسلمين «هي أول تطهير عرقي في الزمن الحديث لا يوازيه فظاعة إلا التطهير اليهودي»
هناك مئات الوثائق التي تحدثت عن معاناة الموريسكيين وعن محاكم التفتيش، وجدت بعد فترة لينكشف الكثير عن الموريسكيين، ومن بينها ما نُقل عن الدكتور عبدالجليل، أنه جاء في أحد الوثائق بأن خمسة أساقفة موريسكيين من كبار أساقفة غرناطة، قد أحرقوا أحياء بسبب افتضاح أمرهم، باعتبارهم مسلمين سرّا ومسيحيين في الظاهر! فقد كانوا غالبا محل شك من قبل محاكم التفتيش، مهما بدا لهم أنهم قد حولوا ديانتهم
إلى جانب معاناتهم التي فرضتها الحكومة الإسبانية من تعذيب وقهر، وهو ما نقلته بعض الوثائق التي كتبها العثمانيون في شأن المسألة الموريسكية، أي عن المعاناة والإحباط اللذين لحقا بالمورسكيين، وهو فشل الدولة العثمانية من تفعيل موقف قوي تجاه إسبانيا، فعلى الرغم من أنها الدولة الأقوى إلاّ أن الإمدادات التي حاولت إرسالها لإثارة ثورة داخلية في غرناطة وتجهيز أسطول بحري لم تكن ناجحة، فما إن وصل الأسطول مشارف إسبانيا حتى تراجع القائد خوفا من التهديدات التي وصلته من ملك إسبانيا، وانسحابه لم يزد أولئك الثوار إلا قهرا، فأخمدت الثورة داخل غرناطة وانتهت بطريقة بشعة
فخرجت أفواج من الموريسكيين، تاركين بلادهم مكسورين، يحملون في صدورهم حب الوطن، وبين ثنايا عقولهم فكرا وأدبا، وعرفوا أنهم أصحاب صنعة وحرفة، فاستقرارهم في تونس تحديدا كان له حضور بالغ الأهمية من نواح اقتصادية واجتماعية ومعمارية، أما عن الفئات الأخرى فمنهم من ارتحل إلى الأناضول ليتشبث بأستار الدولة العثمانية، ومنهم من لم يبتعد كثيرا، فانتقل إلى دول أوروبية مجاورة كإيطاليا
يقول إدوارد سعيد عن المنفى «المنفى لا يمكن أبدا أن يكون حالة رضى عن النفس، واطمئنان، واستقرار
المنفى هو الحياة خارج النظام المألوف
المنفي بَدَوي، غير متمركز»