الدهشة أمر غير اعتيادي!

*نشر في صحيفة مكة

لعل المقاربة الأكثر صدقا حين نتكلم عن أمر كالدهشة هي ربطها بالأطفال، تلك الكائنات التي تنتفي لديهم صفة العادة، فكل شيء يقع تحت نظرهم هو دهشة بحد ذاتها، هو المجهول الذي يستثير حواسهم وتفكيرهم، لذا إن تمعنا في الاستماع إليهم أو مجرد مراقبتهم لانتقلت لنا ذات الدهشة.
لربما في نظري أعظم صفة يمتلكها الفلاسفة، هي صفة الدهشة والقدرة على رؤية الأمر الاعتيادي بصورة غير اعتيادية، فيقول باولو كويلو «الشيء الوحيد الذي أحتاجه هو أن أُدهش يوميا» إذن، نحن مثيرون للشفقة إن مر يوم بنا دون أن نصاب فيه بالدهشة، وربما الوصول للدهشة يأتي في سلسلة لا مناط في أن نحيد النظر عنها كاملة، هي نتاج أمرين «الشك والتساؤل» كما قال كارل ياسبرز: إن الأصل الدافع نحو إنتاج الفلسفة يتمثل في مجموعة من العناصر وهي: الدهشة، التساؤل، المعرفة، الشك، الفحص النقدي، والوعي بالذات».
نستطيع أن نأخذ سيدنا إبراهيم عليه السلام أنموذجا لإعادة النظر في المسلمات حين خاطب الكون (النجوم والقمر والشمس)، وكيف أن التأمل قد يوقعنا فجأة في التساؤل المباح أو الشك في النظرة التقليدية للأمر، ذلك التأمل الذي يثير دهشتنا لنعرف أنه ما زال هناك ما نجهله وما يثير داخل عقولنا أسئلة في الخلق والوجود والكون وكل ما يرتبط بنا وبالهدف من وجودنا، فإن قلق الروح إزاء المسلمات يتطلب الاتكاء على العقل للنظر إليها والحكم عليها، ذلك العقل الذي نهمل استخدامه كثيرا، فإن إبراهيم عليه السلام أعمل عقله كما قال الله تعالى «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْس بَازِغَة قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَر فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تُشْرِكُونَ» يقول د.
أحمد خيري العمري «الإيمان الإبراهيمي بدأ من الشك بمسلمات قومه، واليقين يبدأ من السؤال، وعندما تكون رسالة إبراهيم قد بدأت من التساؤلات ولم ينزل الوحي إلا بعد خوضه تجربة الشك والتساؤل، فإن هذه البداية تطبع الرسالة الإسلامية ككل».
إن الشخص الذي يجيد حقا خلق التساؤل من بطن الأمور العادية والروتينية هو الفيلسوف الذي يستطيع استعادة الدهشة وإثارة الأسئلة بصورة أكثر عمقا ونضجا عن الطفل، كتساؤلات سيدنا إبراهيم عليه السلام.
إننا حين نشكك في أمر ما فإننا بطبيعة الحال نكون قد أثرنا عقولنا ونقلناها من حالة التبلد التي قد تكون شبه مستديمة، إلى الحركة والتفاعل مع محيطه ليستخرج العلاقة في كل ما حولنا من أفكار ومعتقدات ويبني لها أساسا صلبا.
أن نلهث وراء الحياة بشكل اعتيادي وروتيني جدا ليس فقط أن نلغي الطفولة التي تسكننا، بل أيضا أن نلغي الفرصة لأرواحنا في أن ترى تفاصيل الجمال المتكدس فيما خلقه الله وما صنعته الفنون الإنسانية وما أنتجته العقول البشرية.