العزلة وجه آخر للحياة

* نشر في صحيفة مكة

لن أتحدث عن العزلة كما يتحدث عنها المتصوفة باعتبـارهـا الخلاص، ولن أتحدث على أنها اضطراب نفسي يلجأ إليه مريض ما هربا وخشية. سأتحدث عن العزلة بصفتها أحد أوجه الحياة التي تساعد الإنسان بصورة مباشرة في فهم نفسه.
إن بشرية الإنسان تتلخص بصورة أو بأخرى في تناقضاته، فكل إنسان مهما كان من الأخيار تجده بالضرورة يحمل الشر في نفسه وترواده نفسه عليه بصورة دفاعية على الأقل، فيقول روسو :»لا وسيلة للإنسان بأن يعرف أبدا ذاته». قال ذلك حين كان يشرح أثر فعل الخير مقابل الشر وما يحدثه في نفس الإنسان فقد قال: «حين يجهل المرء على الدوام أي فعل من أفعال الخير يروق له، يظل شريراً بالضرورة وشقياً باستمرار» ثم عقب على أولئك الذين يفعلون الخير وأثره فيهم «بأنها لذة تكفي للإغراء بفعلها مرة أخرى» أي الخير. هذه هي التناقضات – الحب والقسوة، الخير والشر- التي تجعلنا نقر ببشريتنا فتزيدنا تقبلاً للآخرين، فإن انكشاف أخطاء البشر هي بطريقة أو بأخرى تجعلنا ليس فقط نتقبلهم بل نتقبل ذواتنا البشرية المجبولة على الخطأ، أي تقبل نفسنا الناقصة، هذه التناقضات تحديداً لاتنكشف فوائدها إلا في حال تركنا فسحة لعقولنا أن تصمت.
يقول باولو كويلو: «طوبى لمن لا يخشون العزلة». فالعزلة تبدو في ظاهرها مخيفة لكنك ما إن تنعزل حتى تسمع ما وراء الضجيج، وترى ما وراء ما تعرفه عن نفسك لتتعرف على ما هو مستودع فيك. العزلة تعطيك مساحة كافية لتكتشف نفسك وقدراتك المخبأة، حين تنعزل عن ضجيج الحياة بالتأمل والانفراد كلياً بذاتك يتكشف أمامك اتساع الحياة بعد أن كانت ضيقة ومتحورة حول أمر واحد. كأن تقود نفسك لتفهم ردود أفعالك، ثم تقف أمام نفسك ليس لتوبيخها بل لاكتشاف الحياة التي لم تكتشفها بعد فيك. لنتخيل أن هناك محاسبا عبقريا وهو من أهم الموظفين في شركة ما، هل تظن أنه هو محاسب فقط؟ ربما يكون كذلك، لأنه لم يترك للعزلة مجالا ما في حياته. فقد يكون هذا المحاسب كاتباً أو موسيقياً في جانب آخر، لكنه لم يدرك ذلك بسبب نمط الحياة السريع والكثيف بالمهام. يقول باولو كويلو: «ما لم تنفردوا بأنفسكم يوماً، فلن تعرفوها. وإذا لم تعرفوا أنفسكم، ستبدؤون بخشية الفراغ. الفراغ لا وجود له، ثمة عالم شاسع يستتر في أرواحنا».
لا تنتهي فوائد العزلة هنا، بل ما يزيدها جمالا هو أنها كثيرا ما توصف بأنها فترة ما قبل الانطلاق، أو بمعنى آخر هي الفترة الحاضنة لفكرة ما، حين نترك الفكرة تنضج على مهل تحت نار هادئة. هذا هو فعل العزلة وهذا يذكرني بما قيل عن العزلة التي كان يعتزلها الرسول الكريم في الغار قبل نزول الوحي، قيل إنها هي أحد تدابير الله له، فالروح التي يراد لها أن تؤثر في حياة البشرية لا بد لها أن تعتزل بعض الوقت وتنقطع عن أشغال الحياة وضجتها. وهذه النقطة تحدث عنها أيضاً أحمد خيري العمري حين أشار إلى أن مرحلة أصحاب الكهف في إطار سورة الكهف كاملة على أنها العزلة، وأشار بضرورتها لأولئك الذين يحملون أفكارا عظيمة، فكل فكرة تحتاج لأن تنضج في العزلة قبل إشهارها.
قد لا تتيح عزلة واحدة كشف أغوار النفس كاملة وقد لا تفعل، لكن نحتاج لأن نكررها بين فترة وأخرى، فالإنسان أولا وأخيرا لا يستطيع البقاء منعزلا إجمالا لأنه كائن اجتماعي، بل ينقطع لمجرد التجديد ثم يعاود تكرار الحياة في إطار؛ أكثر وعيا بنفسه وتمكينا لقدراته.