بين المعلومة المجردة والسلوك الذي تطلبه.. مسافة فاصلة

نشر في صحيفة مكة

نلاحظ مؤخراً أن هناك تدفقا كبيرا للمعرفة ولسيولة المعلومات عبر الشبكات الاجتماعية بحيث أصبحت عقولنا تدخر تلك المعرفة بطريقة سريعة وبشكل واضح، فنجد أن الغالبية منا أصبح يأخذ تلك المعلومات بمحمل الجد ويعطي لها في حياته ومن منبره وفي تغريداته صوتاً ويتبناها كرأي وفكرة.
لكن الجدير بالذكر هو أننا على الرغم من وفرة المعلومات فإننا نجد أن هناك فجوة هائلة بين القول والفعل، فنلاحظ أن أحدهم يتحدث في أمر وما إن ينتهي من حديثه حتى يقوم بما يخالفه، كما أنه في نفس الثانية يقوم بالنقيض تماماً. وقتها يتبادر إلى الذهن هذا التساؤل البسيط، كيف يقوم الناس بعكس ما يؤمنون؟
دعونا نتفق بداية أن هذا يحدث وبطريقة متكررة وبشكل كبير جداً، أي أن الغالبية العظمى من المجتمع يخزن المعلومات والمعرفة في وعاء عقله أكثر من أن يطبق ما يعرفه أو ما يدعي أنه جزء من يقينياته. في الحقيقة أن المسألة لا تكمن في المعرفة فقط ولا حتى مجرد ادعاء الإيمان بها يساعد في نقلها من كونها فكرة لسلوك، فيجب على الشخص أن يفعّل هذه المعرفة في ذاته، حيث إن الفكرة أو المعلومة يستحيل لها أن تتفعل بطريقة تلقائية في الشخص دون أن يفعل حيالها أي شيء، فالمعرفة وحدها لا تستطيع إدخالها في دائرة الوعي بشكل مباشر، ونستطيع لمس هذا الأمر كثيراً فيمن حولنا، لكن السؤال الأهم: هل جميعنا يلحظ تلك الفجوة في نفسه؟ هل يتحسسها داخله؟ هل يعي حجمها واتساعها فيه أم أنه يتجرد منها ويراها في غيره دونه؟ غالباً قد يحدث هذا الانفصال أو كما قلت سابقاً تتسع تلك الفجوة بين المعلومة المجردة والسلوك الذي تطلبه المعلومة. وكل ما يحصل نتيجة لذلك هو أن الشخص غالباً يتبنى المعلومة أو الفكرة بحيث يميل فقط للاستدلال والإشارة لها وحتى الدفاع عنها مع غالب الظن أنها أصبحت جزءا منه، وفي الحقيقة أن كل ما يصير إليه هذا الشخص هو أنه يصبح كثير الانتقاد وكثير الشكوى من أفعال الآخرين، دون إحداث تغيير فعلي في ذاته وفي سلوكياته من خلال معرفته المعلومة. نلاحظ أن معظم الأشخاص في هذه الحالة يكونون قد أحدثوا حاجزا وهميا بين الأمرين -المعلومة والسلوك- حيث إن الشخص لا يدرك حقيقة أن كل ما يمتلكه في تلك اللحظة؛ ونقصد لحظة سرد المعلومة التي في عقله بأنها لم تتجاوز وعاء العقل، أي أنها لم تنتقل إلى جسده وسلوكياته بعد. فجسده ما زال يمارس السلوك التلقائي القديم المترسب فيه. ولإصلاح هذه المشكلة يجب على المرء استحضار تركيزه ووعيه إلى حيث يصبح قادراً على تطبيق تلك المعرفة ونقلها من الموقت إلى الدائم، ومن الفكرة إلى السلوك. ولا يعتبر هذا الأمر أمراً يسيراً أو أن إحداثه يكمن لمجرد هذا الاستجلاب وهذا التركيز. بل تشير بعض الدراسات إلى أن بعض السلوكيات لسنا نملك فيها إرادتنا الحرية، لكن تظل المحاولة والتركيز عليها واستحضارها من الأمور التي تساعد على التخفيف من حدة ما لا نملك إرادة فيه وتمكننا من تغيير ما نملك الإرادة فيه. فيقول برتراند راسل «إنه من الممكن زرع الفكرة الواعية في اللاواعي إذا تم ذلك بقدر مناسب من القوة والشدة». ويقصد هنا بأن اللاواعي غالباً ما تكمن فيه الأفكار العاطفية جداً وهذا يدلنا على أن باستطاعتنا دفن أفكارنا عمداً فنجعل اللاواعي يقوم بعمل مفيد أي بالاستغراق في تمكين الفكرة فيه إلى أن تنتقل إلى السلوك التلقائي. فقد قال راسل أيضاً: إن أفضل خطة هو أن أفكر في الموضوع بتركيز شديد لساعات، وعند نهاية هذه الفترة أعطي الأوامر، مجازاً، بأن يتقدم العمل في اللاشعور، وبعد عدة شهور أعود واعياً إلى نفس الموضوع وأجد أن العمل قد تم إنجازه فعلاً.

لاتجعلوا النسيان الحل الأول بل الأخير

نشر في صحيفة مكة

يختلف تأثير الأحداث الحياتية على الأشخاص بحجمها وعمقها، وغالباً ما يراد لتلك الأحداث النسيان لنستطيع بعد ذلك استعادة ذواتنا لنتمكن من المضي قدما.
أول ما يتمناه المرء خلال الأحداث المؤلمة هو نسيانها، وفي الحقيقة أن فكرة النسيان بحد ذاتها فكرة جيدة، لكن النسيان هو ليس فعلا ولا مجرد إرادة كما نظن، فالنسيان يتطلب منك أن تنسى أنك تريد أن تنسى.
بمعنى آخر، حين يمر المرء بتجربة فَقْدٍ مثلاً فهو لا يريد أن ينسى المفقود بحد ذاته لكن جل ما يريده هو ألا يتوجع لأجل هذا الفقد وألا يتوجع حين تصيبه الذكرى، والحقيقة أن هذا الأمر ليس سهلاً لأنه لا يوجد بأي حال من الأحوال أي ممحاة تمحو الألم أو تلغي الحقيقة التي حدثت وهذا قد يكون محبطاً، لكن لنبن لذواتنا قاعدة جديدة تسهل علينا وتجعلنا بدل أن نستمر مستغرقين في محاولات نسيان فاشلة أن نحتسبها نقطة لصالحنا، وهي أن بعض الخسائر في حقيقتها ليست خسائر محضة بل هي أمور نكسب خلالها ماهو عظيم لنستمر، لكنه مختلف كل الاختلاف عن توقعاتنا. أليست هذه الفكرة أكثر جدوى؟
لأكون أكثر وضوحاً، أحياناً نحن نختار بعد تفكير وإمعان في المضي واتخاذ قرارات مصيرية تكون معاكسة تماماً لإرادة الله ونحن نفعل ذلك عن جهل، أي دون أن نعلم أننا نمشي في طريق عكسي، كأمور فصلت وانقضت نتائجها وهذا قد لا يكون سيئاً على المطلق لأن الإنسان دائما ما يظن أنه يختار الأصلح لنفسه، لكن ما يجب أن نتذكره هو أن الاختيار هنا ليس إلا احتمالا قابلا للخطأ والإخفاق. وأنه مهما بلغت حكمتنا وبلغ ذكاؤنا فهو أقل محدودية من أن يخرق القدر. فالقبول هنا هو أقوى الإيمان وليس أضعفه، إلا أننا نخلط أحياناً بين ضعفنا وقوتنا، فلطالما كانت القوة في المحاولة وليست في التسليم، بينما مع الوقت يتجلى لنا عكس ذلك وهو أن غالباً في الأحداث والمصائب الكبيرة لا تجدي المحاولة، وأنه لا جدوى سوى بالقبول والتسليم.
إذا فمحاولة النسيان تتطلب منا أن نقبل بالأمر أولاً لكن القبول لا يأتي دفعة واحدة على الأرجح بل يمر بمرحلة انكسار قبلها ومشاعر متداخلة تحمل الكثير من اللوم بلو أو لماذا، فمثلاً: لو يعيدني الزمن لتلك اللحظة لفعلت كذا بدلا من كذا!! إن اعتبر الشخص مرحلة كهذه من الضعف هي المرحلة الأولى من القبول بشرط ألا يركز على أمر النسيان، فإنه يبلى بلاء حسناً.
لكن.. كيف نجعل التسليم قوة لنا لا ضعفا ونخالف الفكرة اللصيقة به؟ بصورة سريعة، علينا أن نبذل مجهوداً على مستويات ثلاثة وهي (العقل، الجسد، الروح)، فالعقل بعدم إجهاده فيما حصل وكيف حصل، أي بعدم الاستغراق في التفكير. أما الجسد فلا حل له سوى استثمار طاقاته، أي بذل جهد أكبر خلال الأعمال اليومية أو ممارسة الرياضة. والروح فنغذيها بالإيمان، بمعنى أن نؤمن بأن ما حدث هو أمر الله المقدر لنا، إضافة إلى ذلك تغذية الروح بالجمال، وذلك عبر الفنون سواء بصرية أو سمعية أو غيرها. فالعمل على هذه المستويات الثلاثة والتركيز عليها بما يشتت عنا قلق الذكرى وآلامها، لربما سيكون سبيلاً للنسيان، لكنه يقيناً سيخفف عنا وطأة الألم.
لا أظن أن النسيان بحد ذاته مطلب، فكل أمر يحدث في حياتنا هو جزء منا، وإلغاؤه يعني إلغاء شيء منا، ولا أظن أيضاً أن النسيان قرار صائب بل ربما هو قرار انفعالي، فلنفكر قليلاً فيما لو أن استجابة النسيان حدثت، كيف سيكون شكل الحياة ونحن نعيش بذكرى ناقصة؟ نحن كل ما نريده هو أن يزول الألم، والألم سيزول عاجلاً أم آجلاً، وبزواله ستغدو كل الأحداث ذكرى وتجربة أضفت لحياتنا الشيء الكثير مهما كانت قاسية ومؤلمة. إذاً لا تجعلوا النسيان الحل الأول، بل الأخير.

تنبيه: يجب على الأطفال مشاهدة فروزن Frozen

*نشر في صحيفة مكة

اخر حكاية أنتجتها ديزني هي حكاية «فروزن» التي لم تكن على طابع ديزني المعتاد، ولا على شاكلة أفلامها السابقة، لا أقصد من ناحية الإخراج البصري والفني، أي ليس من ناحية جمالية الجرافيكس والرسومات المذهلة أو الموسيقى، وهذا مما لا شك فيه شيء أصيل في إنتاجات ديزني منذ أن وُلِدَتْ، بل أتحدث هنا على مستوى آخر، مستوى تربوي أكثر وعيا بحكم أنها من أهم الشركات العالمية لصناعة الأفلام وصياغة الحكاية، فعلى ما يبدو أن شركة ديزني أخيراً أدركت أن قصص الحب لا تتمركز ولا تتمحور فقط على الحب الذي ينشأ بين الجنسين، أو دعونا نقول أنها أدركت بأنها يجب أن تغرس مفهوما جديداً لدى الأطفال عن الحب، ولو من باب التعزيز.

سأتحدث عن فيلم «فروزن» وأعرج على ناحيتين تربويتين مهمتين، وخلالها سيظهر جواب لسؤالكم الذي نتج عن عنوان المقال: لماذا يجب على الأطفال مشاهدة فيلم «فروزن»؟
خلال مشاهدة فيلم فروزن سنلاحظ بعداً مهماً تمحورت فيه القصة وهي أنها صورت بداية حياة فتاة خلقت بموهبة عظيمة إلا أنها أقحمت في طفولتها على قمعها حتى تحولت إلى هاجس مخيف يؤذيها ويؤذي كل من يقترب منها، ومن هذه النقطة نستطيع إسقاطها على الواقع ونقول بأن العديد العديد في واقعنا يعيش معاناة هذه الفتاة، فكم من أطفال يمتلكون مواهب لكنهم يخشون إظهارها أو يتم تجاهلها حتى تندثر مع الوقت فلا يعود لها بريق، إنها قصة تحكي واقع الموهوبين على الأرجح وخصوصاً أولئك الذين لديهم مواهب مختلفة كلياً وغالباً لا يستطيع إدراكها بعض المربيين فيقتلوها داخل الأطفال مبكراً، لكن موهبة أميرتنا في الفيلم لم تقمع فقط بل جعلتها تخشى المواجهة، وأودتها لتقيم وحيدة في قصر ثلجي، وهذا يشبه كثيراً الأطفال الموهوبين الذين يعيشون متوحدين ومتقوقعين مع ذواتهم في حيرة وقلق إلى جانب أنهم محرومين من استخدام مواهبهم لسبب بسيط هو عدم إدراك المربين سواء والدين أو معلمين لهذه المواهب وتفعيلها. لكن الأميرة في النهاية استطاعت التغلب على الخوف واستثمار موهبتها بمساعدتها لنفسها بدافع الحب وهنا إشارة بسيطة قد يدركها الأطفال عاجلاً أم آجلاً بأنهم في وقت ما سيكونوا هم المسؤولين عن مواهبهم واكتشافها وتفعيلها.
إضافة إلى فكرة أخرى مهمة، ومحورية تستطيع أن توسع إدراك الطفل لمفهوم الحب، بل وإدراك قيمة الحب تجاه الآخرين الذين يعيشون على مقربة، نسكن معهم ويسكنون معنا، دون أن يفكر بعضنا من يقول لهم كلمة حب واحدة، ففيلم «فروزن» لا يحكي قصة تشبه سنووايت وقبلة الحياة من فارس وسيم أحياها من بعد غيبوبة،
ولا سندريلا وفارسها الذي جاب المدينة باحثاً عنها ليجدها ومن ثم ينقذها من عذابات زوجة والدها، ولا تشبه أي من قصص الفيري تيلز، قصة فروزن حكاية جميلة جداً، تحكي علاقة حب أكثر اتساعاً وأكثر صلابة، ذلك الحب الذي لا يصدأ ولا ينهار أمام كل الخلافات. الأميرة في هذه القصة تختلف عن سنووايت وسندريلا حيث لم تشف من لعنتها بفعل ساحرة، الأميرة التي لم تنته على يد رجل ولم تبتدأ بقبلة منه، بل هي ببساطة شفيت بواسطة حب أخوي صادق، كان حضناً أخوياً كما صوره الفيلم. وهذا تحديداً ما يجعلني أقول إن ديزني انتقلت نقلة نوعية في فيلمها الأخير، حيث أنها أخيراً اتخذت منحنى آخر، وحطمت أسطورة قبلة الحب الحقيقي واستبدلتها بفكرة أكثر نضجاً، هي أن الحب الحقيقي لا يرتبط دائماً برجل، مع مراعاة الغريزة الطبيعية للأنثى، حيث إنه لم يكن مستتراً بل واضحاً خلال الأحداث. الفيلم صور معنى الحب في أسمى حالته وأروعها على الأرجح، كان حباً ناعما براقاً بين أختين.
تشكر ديزني لتبديدها خرافات الفيري تيلز المعتادة، نرفع لها ولهذا العمل العظيم قبعة الاحترام، نستطيع القول بأن فيلم «فروزن» حاول علاج أمرين مهمين، الأول: على الموهبة، هو وإن حُرم الطفل في طفولته من يقوده لتفعيل موهبته، فإنه سيدركها مع الوقت ويحررها من مخاوفها ويطلق لها العنان، إلى جانب رسالة للمربيين، لا تقمعوا مواهب أطفالكم بل انعشوها. والثاني: على القلب، حين وسعت مفهوم الحب والعلاقة الحقيقة فيه واستبدلتها بقاعدة حب جديدة يغفل عنها الناشئة غالباً وهي أن الحب الحقيقي غالباً ينشأ في العلاقات بين الأصدقاء والأخوة ومع الوالدين وليس محصوراً في اتجاه واحد؛ تجاه فارس الأحلام، كما أنه لا يلغي ولا يطغى أي من أشكال الحب على الآخر.

المواجهة الصعبة.. لا أحد يستطيع تقليص النواقص فينا سوى ذواتنا

*نشر في صحيفة مكة

إن البشر كما يقول علي عزت بيجوفيتش «إما أخيار أو أشرار ولكنهم ليسوا أبرياء» ثم يؤكد على أن مسألة حرية الاختيار في كونه شريراً أو خيّراً هو المعنى في أن يكون إنساناً. ومن هذا المنطلق نستطيع القول إن فعل محاسبة النفس هو فعل إنساني اختياري، كما هو فعل تقييمي لإظهار الإنسان الذي بداخلنا ما إذا كان من الأخيار أو الأشرار.
فلنفترض إذاً أن الأصل في أغلب مشكلات الإنسان هي أنها نابعة من ذاته -حيث أراه أمرا منطقيا- لذا فإن أول ما نقوم به على سبيل المثال حين يحدث أي خطأ أو خلاف بيننا وأي شخص هو رد الاتهام بطريقة تظهرنا بريئين بينما الطرف الآخر هو المذنب أو الشرير حتى وإن لم يكن كذلك، فإن ردة الفعل هذه أو ما نسميه دفاعا عن الذات هو ليس خطأً في حد ذاته بل الخطأ يكمن في الطريقة، ولأن الإنسان في أصله حذر فإنه يحاول غالبًا أن يكون حاضراً بأي رد يدعم موقفه بغض النظر عما إذا كان صحيحاً ومناسبًا، ونلاحظ أن أسهل الدفاعات التي يدافع المرء بها عن نفسه هي إنكار هذا الخطأ، وقد لا يكتفي بذلك بل ينتقل لمرحلة التبرير ثم تصديق ذلك التبرير ويصل به الأمر إلى نفي الخطأ تماما عن إدراكه، فيرتاح ضميره أو يموت. لكن تلك العملية في الحقيقة غالباً ما تكون هروباً من الذات التي أخطأت في فعلها مع الآخر، فتدافع وتبرر بكل جسارة وبطريقة مقنعة لحد ما وليس هدفها إقناع الآخرين بقدر أن تقتنع هي، حد أن لا يعود هناك ذنب يجعلها تفكر في احتمال أنها هي المخطئة.
بطريقة أخرى.. نحن ببساطة نتسلح ثم نهاجم الآخرين بقدر دهائنا دون أن نشعر أو بقدر النقص بداخلنا، ذلك النقص الذي هو نتيجة لقسوة الحياة ربما. لكن المشكلة أنه كلما اتسعت تلك الفجوة بين الشخص وذاته بإهمال مراقبتها ومحاسبتها اتسعت فجوة هذا النقص وتلك الغربة حتى لا يعود المرء يميز حقاً إن كان هو من يرتكب تلك الحماقات مع الآخرين أم هم. لا أحد يستطيع ردم أو تقليص النواقص فينا سوى ذواتنا، وكلٌ حسب طريقته وعمق صدقه مع نفسه.
فيحكى أن تولستوي كان صارمًا وحازمًا مع ذاته جداً، كان له نهجه الخاص في تعامله مع نفسه، انتهج ما اسماه ب «الحراسة الخاصة على الحياة الشخصية» حيث أنه كان يجمع شتات قلبه ويغسلها تطهيرًا وتوبة، كان يحاول محاسبة نفسه باستمرار كإنسان، ويراقب نفسه رقابة شديدة. فقد وصف رجاء النقاش في كتابه -تأملات في الإنسان- طريقة تولستوي قائلاً: «كان تولستوي يضرب نفسه بسوط لا يرحم، ويراقب نفسه بدقة وقسوة وكأنه قد انقسم إلى شخصيتين، إحداهما تعادي الأخرى فتقول لها عيوبها بلا خوف ولا مجاملة» ولأن الهدف الرئيس من هذه العملية هو التصحيح والتقويم فدعونا نطلق عليها مسمى عملية تصحيح الذات وليس الضرب أو الجلد وإن كان مجازاً. ومن هنا نستطيع أن نستشف الصدق في معاملة تولستوي لنفسه، فهو لم يكن جباناً ولا خوانًا لذاته أو مدارياً لضعفه أبداً، بل يقبل ضعفه بشجاعه ويثق بأن ما يفعله لن يترك إلا عمق المعنى الذي سيجعله آجلاً أم عاجلاً أكثر جمالاً مهما سبب ذلك له من ألم.
وخلال سيرته نلاحظ كيف كان تولستوي يهتم في تعاملاته مع الآخرين ومثال ذلك أن منزله كان محطة أو مأوى لمن يحتاج، كذلك جعل من أرضه الزراعية وقفًا للفلاحين، كان رجلاً يحاول من خلال مراقبة نفسه وتحريضها واختيار البدائل أن يكون خيّرًا وذلك يوافق تماماً فكرة علي عزت بيجوفيتش في قوله «إن اختيار الإنسان الوحيد هو أن يكون إنسانا أو غير إنسان».

قابلية الإخفاق هي مايشكلنا ويصنعنا

*نشر في صحيفة مكة

تقول أناييس نن في إحدى مذكراتها: «عندما لا تحقق الحياة المحلوم بها نفسها في الواقع، تصبح فخاً مأساوياً». عبارة كهذه ما إن يقرأها أي عابر فإنها ستلامسه وتحرك فيه أشجاناً لا تنتهي. في المقابل قد يقرأ البعض عبارة متفائلة جداً فيفسر أن الذي كتبها لا يعيش الواقع أبداً، وإلا من أين يأتي بكل هذا التفاؤل. فلنحاول تفسير الموقفين بالأعلى بصورة سريعة.
ما الذي يجعل المتفائل يدعم التفاؤل؟ وما الذي يجعل اليائس ينصر اليائسين؟ هذا يتكون خلال التجارب الشخصية، فحزب المتفائلين هم من يتعثرون ويحاولون مراراً وتكراراً حتى يحظوا بما يريدون، أو ـ لنكون أكثر صدقاً ـ بعض ما يريدون. فليس هناك من يحقق كل مايريده بالمطلق. وحزب اليائسين قد يكونون أخفقوا وتعبوا فتوقفوا على الفور، أي وقعوا في فخ اليأس والاكتئاب والخوف من المحاولة، نتيجة لتجارب كانت نتيجتها الإخفاق. لن أقول ابذلوا جهدكم أكثر ولن أحرضكم على التفاؤل، فهناك من يفعل ذلك وهم كثر، بل أريد أن أخبركم بأن الإخفاق شعور وارد، بل وطبيعي، وأن تمام تركيبة الإنسان يكمن بوجود قابلية هذا الإخفاق وإمكانية هذا التعثر.
بمعنى آخر أننا في جوهرنا غير كاملين، وعدم الكمال هذا هو الباعث على الحلم والتمني، وهذا أمر إيجابي حقاً، فالحياة بمجملها لو كانت مثالية جداً، وكل ما نتمناه سيتحقق على أكمل وجه دون هذا الإخفاق الذي يبث روح المغامرة والتحدي، ستكون واقعاً غير قابل للحياة، أو لن يكون لنجاحاتنا معنى في داخلنا على الأقل. و هذا لأننا لسنا مؤهلين لحياة مثالية غير قابلة للهبوط والوقوع والتدحرج. فالأدبيات التي تتحدث بمثالية مطلقة عن حياة فرد واحد قادر على تحويل المجتمع لحالة نصر، هي قد لا تحثك للوصول لهذا الكمال ولا تلك المثالية، ولكنها هي ردود أفعال هذا النقص الكامن فينا، هي تعبر عن إرادات غير الممكن أو قليل الاحتمال، وهذا ما يجعلها جميلة، لأنها توافق حلم المثالية والكمال الذي لطالما سعى له الإنسان. بصيغة أخرى نستطيع القول إن قابلية الإخفاق هي ما يشكلنا وينحتنا ويصنعنا أفرادًا. فلو اقتطعنا قصص النجاح فقط من قصة حياة الفرد كاملة، فإن كل فرد منا هو ناجح بالضرورة في موقف، أو في ردة فعل، أو في قصة تغير حياته وتنقلها من حال إلى حال.
نستطيع أن نستفيد من إخفاقنا بإقرارنا أننا قابلون للإخفاق، فأكثر الذين يصابون بالاكتئاب سريعاً هم أولئك الذين لا يعتقدون بأن الإخفاق من صميم كينونتنا، فيتخذون موقفاً سريعاً من الإخفاق ثم يخشون الإقدام على الحياة من جديد. إن أحد أهم نتائج قبول الإخفاق داخلياً هو عدم الخوف من المغامرة وعدم التردد في مسائل حياتية صعبة، حتى لو كانت نسبة نجاحها ضئيلة. بالمقابل أولئك الذين يؤمنون بالمثالية ويتخذونها كواق من الإخفاق، يروعهم الإخفاق كثيرًا، فبدل الإقدام خطوة يتراجعون خطوات إلى الوراء، أو ربما يتركون إيقاع حياتهم على وتيرة واحدة دون بذل أدنى جهد لمحاولات أخرى.
إذاً فالمعادلة بسيطة، أننا لا نستطيع الوصول لأمر ما لم نختبر نقيضه في الغالب، فبدل الخوف من أن نتعرض للإخفاق في أمر هو أن نعتقد بأنه مهم للانتقال لمرحلة أخرى، فما لم نتعرض للحزن لن نشعر بالفرح، وما لم نتعرض للإخفاق لن نشعر بالنجاح، وما لم يصبنا اليأس لن نفهم التفاؤل، وهكذا.
يقول جبران خليل جبران: بعض الناس يقول: «إن الفرح أسمى من الحزن» ويقول آخرون : «إنما الحزن أسمى» ولكني أقول لكم إنهما لا ينفصلان، معاً يقبلان، وإذا انفرد أحدهما بك في المائدة فتذكر أن الآخر قد يرقد في فراشك.

العزلة وجه آخر للحياة

* نشر في صحيفة مكة

لن أتحدث عن العزلة كما يتحدث عنها المتصوفة باعتبـارهـا الخلاص، ولن أتحدث على أنها اضطراب نفسي يلجأ إليه مريض ما هربا وخشية. سأتحدث عن العزلة بصفتها أحد أوجه الحياة التي تساعد الإنسان بصورة مباشرة في فهم نفسه.
إن بشرية الإنسان تتلخص بصورة أو بأخرى في تناقضاته، فكل إنسان مهما كان من الأخيار تجده بالضرورة يحمل الشر في نفسه وترواده نفسه عليه بصورة دفاعية على الأقل، فيقول روسو :»لا وسيلة للإنسان بأن يعرف أبدا ذاته». قال ذلك حين كان يشرح أثر فعل الخير مقابل الشر وما يحدثه في نفس الإنسان فقد قال: «حين يجهل المرء على الدوام أي فعل من أفعال الخير يروق له، يظل شريراً بالضرورة وشقياً باستمرار» ثم عقب على أولئك الذين يفعلون الخير وأثره فيهم «بأنها لذة تكفي للإغراء بفعلها مرة أخرى» أي الخير. هذه هي التناقضات – الحب والقسوة، الخير والشر- التي تجعلنا نقر ببشريتنا فتزيدنا تقبلاً للآخرين، فإن انكشاف أخطاء البشر هي بطريقة أو بأخرى تجعلنا ليس فقط نتقبلهم بل نتقبل ذواتنا البشرية المجبولة على الخطأ، أي تقبل نفسنا الناقصة، هذه التناقضات تحديداً لاتنكشف فوائدها إلا في حال تركنا فسحة لعقولنا أن تصمت.
يقول باولو كويلو: «طوبى لمن لا يخشون العزلة». فالعزلة تبدو في ظاهرها مخيفة لكنك ما إن تنعزل حتى تسمع ما وراء الضجيج، وترى ما وراء ما تعرفه عن نفسك لتتعرف على ما هو مستودع فيك. العزلة تعطيك مساحة كافية لتكتشف نفسك وقدراتك المخبأة، حين تنعزل عن ضجيج الحياة بالتأمل والانفراد كلياً بذاتك يتكشف أمامك اتساع الحياة بعد أن كانت ضيقة ومتحورة حول أمر واحد. كأن تقود نفسك لتفهم ردود أفعالك، ثم تقف أمام نفسك ليس لتوبيخها بل لاكتشاف الحياة التي لم تكتشفها بعد فيك. لنتخيل أن هناك محاسبا عبقريا وهو من أهم الموظفين في شركة ما، هل تظن أنه هو محاسب فقط؟ ربما يكون كذلك، لأنه لم يترك للعزلة مجالا ما في حياته. فقد يكون هذا المحاسب كاتباً أو موسيقياً في جانب آخر، لكنه لم يدرك ذلك بسبب نمط الحياة السريع والكثيف بالمهام. يقول باولو كويلو: «ما لم تنفردوا بأنفسكم يوماً، فلن تعرفوها. وإذا لم تعرفوا أنفسكم، ستبدؤون بخشية الفراغ. الفراغ لا وجود له، ثمة عالم شاسع يستتر في أرواحنا».
لا تنتهي فوائد العزلة هنا، بل ما يزيدها جمالا هو أنها كثيرا ما توصف بأنها فترة ما قبل الانطلاق، أو بمعنى آخر هي الفترة الحاضنة لفكرة ما، حين نترك الفكرة تنضج على مهل تحت نار هادئة. هذا هو فعل العزلة وهذا يذكرني بما قيل عن العزلة التي كان يعتزلها الرسول الكريم في الغار قبل نزول الوحي، قيل إنها هي أحد تدابير الله له، فالروح التي يراد لها أن تؤثر في حياة البشرية لا بد لها أن تعتزل بعض الوقت وتنقطع عن أشغال الحياة وضجتها. وهذه النقطة تحدث عنها أيضاً أحمد خيري العمري حين أشار إلى أن مرحلة أصحاب الكهف في إطار سورة الكهف كاملة على أنها العزلة، وأشار بضرورتها لأولئك الذين يحملون أفكارا عظيمة، فكل فكرة تحتاج لأن تنضج في العزلة قبل إشهارها.
قد لا تتيح عزلة واحدة كشف أغوار النفس كاملة وقد لا تفعل، لكن نحتاج لأن نكررها بين فترة وأخرى، فالإنسان أولا وأخيرا لا يستطيع البقاء منعزلا إجمالا لأنه كائن اجتماعي، بل ينقطع لمجرد التجديد ثم يعاود تكرار الحياة في إطار؛ أكثر وعيا بنفسه وتمكينا لقدراته.

جدارة المعنى

* نشر في صحيفة مكة

حكي فيكتور فرانكل مؤسس علم العلاج بالمعنى في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى»، حين كان في معتقلات النازيين: «كنت أعلم أن التحاقي بفريق للعمل يعني موتي في فترة قصيرة -حيث انتشار الأوبئة في المعتقل- ولكن إذا كان لي أن أموت هكذا، فسوف يكون لموتي معنى على الأقل.
لأني أخذت على عاتقي المساعدة كطبيب بدلاً من حياة البلادة التي أعيشها».
إن حالة التعب التي يكون فيها الإنسان أحياناً أو ربما في الغالب لا تنفك عن المعنى القرآني الذي يقول: «لقد خلقنا الإنسان في كبد»، فالأمر الذي يجب على المرء الوعي به هو أن الراحة مفهوم سقيم في حياتنا هذه إلا إن وجد المعنى الذي يعيش المرء لأجله.
يقول ديستوفسكي: «ما يروعني هو ألا أكون جديرا بمعناتي وآلامي»، أستطيع تأويل مقولة ديستوفيسكي على أن المعاناة هي المقياس للإيمان أو لمعرفة كم الفراغ الذي يعيشه الإنسان.
فمعنى أن أكون جديراً يعني أن أنظر خلف تلك المعاناة، نحو الأبعد، وأؤكد قولي بما قاله الله تعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا» هذا تأكيد على أن الخالق -الله -خلق الإنسان في كينونته وهيأه وصنعه ليس ليعيش عبثاً، فيرى البعض أن هذه القضية هي قضية كونية أي أنه تقدير كوني، فلو أن الإنسان أراد العيش بمحض إرادته لأجل العبث وإفساد الأرض والسيطرة، وصناعة الحرب، أو حتى العيش بأنانية مطلقة فإن ذلك يناقض طبيعته وذاته وأنه يناقض كذلك الهدف من المعاناة التي يعانيها، فيكون غير جدير بها.
فالغاية المطلقة والمعنى المطلق يكمن حيث يكون المعنى.
حكى فرانكل في كتابه، أن أحد أصدقائه في المعتقل قد فقد الأمل في أن يفرج عنه فما أن اعتنق تلك الفكرة حتى بدأ جسده يستجيب للذلك فانتقل إليه المرض وتمكن منه ومات بعدها.
فيعلق فرانكل على هذا الصديق: «وبذلك كان صوت حلمه هو الصحيح برغم كل شيء».
لربما كانت أوسع أحلامه في ذلك المعتقل وذلك المنفى هو الخلاص وقد نالها دون أن يمتلك جدارة المعاناة وجدارة المعنى، فلو فرضنا أن مصير الإنسان هو المعاناة، فإن تقبل تلك المعاناة يساوي عمق المعنى الداخلي لهذا الإنسان.
فبحجم ذلك المعنى تكون القدرة على تحمل تلك المعاناة بكامل أعبائها، فلو كان حجم المعنى هامشي ووقتي فسيكون التحمل بذلك القدر ولو كان واسعًا وعميقاً وارتبط بحجم خالق السماء فإنه يكون كذلك أيضاً.
إذاً فما قاله نيتشيه صحيح هو «أن من يمتلك سبباً يعيش من أجله، فإنه غالباً يستطيع أن يتحمل بأي طريقة وبأي حال»، نستطيع القول بأن الأمل هو المرادف الوحيد لفكرة غزارة المعنى، وهو الطريق لتقبل المعاناة ومواصلة الحياة وابتكار الوسائل للوصول إلى الجدارة والإيمان، فكلما كان الأمل عميقاً والإيمان غزيراً كان بلوغ المعنى يسيراً مهما عسر.

الدهشة أمر غير اعتيادي!

*نشر في صحيفة مكة

لعل المقاربة الأكثر صدقا حين نتكلم عن أمر كالدهشة هي ربطها بالأطفال، تلك الكائنات التي تنتفي لديهم صفة العادة، فكل شيء يقع تحت نظرهم هو دهشة بحد ذاتها، هو المجهول الذي يستثير حواسهم وتفكيرهم، لذا إن تمعنا في الاستماع إليهم أو مجرد مراقبتهم لانتقلت لنا ذات الدهشة.
لربما في نظري أعظم صفة يمتلكها الفلاسفة، هي صفة الدهشة والقدرة على رؤية الأمر الاعتيادي بصورة غير اعتيادية، فيقول باولو كويلو «الشيء الوحيد الذي أحتاجه هو أن أُدهش يوميا» إذن، نحن مثيرون للشفقة إن مر يوم بنا دون أن نصاب فيه بالدهشة، وربما الوصول للدهشة يأتي في سلسلة لا مناط في أن نحيد النظر عنها كاملة، هي نتاج أمرين «الشك والتساؤل» كما قال كارل ياسبرز: إن الأصل الدافع نحو إنتاج الفلسفة يتمثل في مجموعة من العناصر وهي: الدهشة، التساؤل، المعرفة، الشك، الفحص النقدي، والوعي بالذات».
نستطيع أن نأخذ سيدنا إبراهيم عليه السلام أنموذجا لإعادة النظر في المسلمات حين خاطب الكون (النجوم والقمر والشمس)، وكيف أن التأمل قد يوقعنا فجأة في التساؤل المباح أو الشك في النظرة التقليدية للأمر، ذلك التأمل الذي يثير دهشتنا لنعرف أنه ما زال هناك ما نجهله وما يثير داخل عقولنا أسئلة في الخلق والوجود والكون وكل ما يرتبط بنا وبالهدف من وجودنا، فإن قلق الروح إزاء المسلمات يتطلب الاتكاء على العقل للنظر إليها والحكم عليها، ذلك العقل الذي نهمل استخدامه كثيرا، فإن إبراهيم عليه السلام أعمل عقله كما قال الله تعالى «فَلَمَّا رَأَى الشَّمْس بَازِغَة قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَر فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تُشْرِكُونَ» يقول د.
أحمد خيري العمري «الإيمان الإبراهيمي بدأ من الشك بمسلمات قومه، واليقين يبدأ من السؤال، وعندما تكون رسالة إبراهيم قد بدأت من التساؤلات ولم ينزل الوحي إلا بعد خوضه تجربة الشك والتساؤل، فإن هذه البداية تطبع الرسالة الإسلامية ككل».
إن الشخص الذي يجيد حقا خلق التساؤل من بطن الأمور العادية والروتينية هو الفيلسوف الذي يستطيع استعادة الدهشة وإثارة الأسئلة بصورة أكثر عمقا ونضجا عن الطفل، كتساؤلات سيدنا إبراهيم عليه السلام.
إننا حين نشكك في أمر ما فإننا بطبيعة الحال نكون قد أثرنا عقولنا ونقلناها من حالة التبلد التي قد تكون شبه مستديمة، إلى الحركة والتفاعل مع محيطه ليستخرج العلاقة في كل ما حولنا من أفكار ومعتقدات ويبني لها أساسا صلبا.
أن نلهث وراء الحياة بشكل اعتيادي وروتيني جدا ليس فقط أن نلغي الطفولة التي تسكننا، بل أيضا أن نلغي الفرصة لأرواحنا في أن ترى تفاصيل الجمال المتكدس فيما خلقه الله وما صنعته الفنون الإنسانية وما أنتجته العقول البشرية.

نفس تواقة.. وقلب ذو شغف

* نشر في صحيفة مكة

يقول الكاتب فلاديمير نابوكوف: «أبدأ يومي بالعمل وقوفاً في غرفة المكتب، وعندما تترك الجاذبية الأرضية أثرها على مؤخرتي أجلس على كرسيي المريح ذي الذراعين أمام طاولة الكتابة. أكتب حتى تترك الجاذبية الأرضية أثرها على عمودي الفقري وأتمدد على أريكة في زاوية المكتب». لا يحدث ذلك مع شخص ما لم يكن ممتلئًا شغفاً لما يفعله ويقوم به، أي ينسى نفسه وسط انغماسه في عمله إلى أن يئن جسده دون روحهِ.
يقول باولو كاويلو «الشغف والحماس يجعلان المستحيل ممكناً». لنختصر الحديث ونقول إن المعجزات لا تتحقق إن لم نمتلئ بالحب. فقد عرّف المعجم الوسيط معنى الشغف بأنه الحب والولع، ومعنى التوق هو الاشتياق للشيء، فالشغف والتوق هما تركيبة طبيعية لكل قلب، وهنا أتكلم عن المعنى الواسع لهذه الألفاظ المحددة
حين تعرف كل نفس ما تشتاق إليه ويعرف كل قلب ما يحبه من عمل، فإن مستوى الإنتاجية سيزداد، فالمرء بطبيعته يتعبه الكسل والفراغ أكثر من الانهماك في عمل ما يحبه، إلا أن الفكرة المتداولة التي يعتقدها كثير أن العمل هو الشيء المنهك والالتزام به يعني أن نتجرد من الحياة، وأن نكون أشبه بأجساد تعمل دون روح
فكل عمل لا تشعر حياله بالارتباط ولا يكون جزءا من قلبك لا يعول عليه، إضافة إلى أنه يشغل حيزاً كبيراً منك دون فائدة مرجوة، فلا مخرجات بقدر المتوقع
الشغف هو طريق الإبداع، لأن الحب هو حالة شعورية تستدعي الابتكار والتجديد، لتظل العلاقة متدفقة وتسير في مسارها الصحيح
قولبة الشخص واحتكار عقله وإمكاناته بإطار معين داخل حدود معينة هي كأن تسد شريان الحياة بين القلب والعقل، فالشخص لا يستطيع أن ينتج بفاعلية ما لم يجد بيئة محفزة وعملاً يخترق شغاف قلبه ويسكنه. يقول بابلو نيرودا «ميت من يتجنب الشغف.. ولا يجازف باليقين في سبيل اللا يقين من أجل أن يطارد أحد أحلامه» اقتحموا الحياة ولا تقفوا في أماكنكم بانتظار معجزة ما أن تحدث. في المجازفة إنقاذ للحواس، وتفعيل للإمكانات المستودعة في داخلك، فالخالق قد خلق داخل كل منا شغفاً لا يكتشف عبر الخمول والكسل واللاشيء بل بطبيعة الحال هو أن تكون في حالة بحث مستمرة عما تحبه وليس فقط عمن تحب. فوقود الحياة هو الحب مهما حاولنا حصره في شيء واحد ومهما حاولنا تقييده يظل متسعاً فاسلكوا الطرق المحتملة وغير المحتملة للوصول.
يقول باولو كاويلو : «ثمة أناس كثيرون يخافون من الشغف، لأنه يدمر في طريقه كل ما يتعلق بالماضي» فالشغف قد لا يأتي في مرحلة متقدمة بل بعد أن تجرب كثيرا من التجارب المختلفة في هذه الحياة ومهم أن تجرب وتفشل، أو تنجح تلك النجاحات التي لا ترضيك، وتستمر وتواصل التجربة كأن تقرأ كثيرا عن مختلف المجالات وتعيش حيوات آخرين لتستشف ذاتك عبرهم وتفهم كيانك خلالهم وتجد شغفك الذي تستمده خلال تراكمات تجاربك الخاصة، وما إن يأتي ذلك الشغف وتأتي تلك اللحظة التي يتمكن فيها «الشغف» منك حتى تعيد كل ترتيباتك وأولوياتك لتصنع ما لم يصنعه أحد وتتفرد. فالماضي لا يعود حاضراً فيك حين يصبح الشغف هو الحياة.
قال الخليفة عمر بن عبدالعزيز «إن لي نفساً تواقة، وما حققت شيئاً إلا تاقت لما هو أعلى منه، تاقت نفسي إلى الزواج من ابنة عمي فاطمة بنت عبدالملك فتزوجتها، ثم تاقت نفسي إلى الإمارة فوليتها، وتاقت نفسي إلى الخلافة فنلتها، والآن تاقت نفسي إلى الجنة فأرجو أن أكون من أهلها»

لماذا يكون الماضي مهماً.. بينما اللحظة أهم

* نشر في صحيفة مكة

يقول إيكارت تول:“الاستسلام ظاهرة داخلية صرفة
هذا لا يعني أنه على المستوى الخارجي لا تستطيع أن تقوم بفعل وتغيّر الحال
في الحقيقة، إنها ليست الحالة العامة التي تحتاج أن تُقبل عندما تستسلم، لكنها الجزء الصغير المسمّى الآن
”لنفترض لو أن التسليم هو جزء من ممارسات الحياة اليومية، فإن الصعوبات أو الإخفاق أو مرحلة الفشل في اللحظة التي تكون فيها مدركاً لذلك الفشل تدفعك لتنهض منها بقوة التسليم، أي تُسِقط عنك كاهل ما قد حصل لتكون بذاتك ووجودك كله في الوقت، والزمن، واللحظة الراهنة، إن الاستسلام أو التسليم هو طقس داخلي واعٍ حيث يمر الفشل عليك ثم يصبح ماضياً تستقرئ منه مستقبلاً يكون فيه الوعي هو المحور الأساسي لقصد الهدف
ذكر الدكتور فتحي التريكي بأن عالم الحياة اليومية هو «التجربة والعلاقات الإنسانية التي نتعامل معها ونعيها من خلال أذهاننا وحواسنا» إذا فالنمط اليومي هو نمط الأحداث التي تحدث حيث يكون الشخص فيها واعياً ومدركاً وحاضرًا ذهنياً فتتشكل عنها تجاربه الشخصية وعلاقاته بالأشياء والأشخاص لتصبح طقوساً منتظمة لفعل الحياة
نتعرض خلال حياتنا اليومية -لأننا جزء من الواقع- للكثير من الضغوطات مثلاً إخفاق في اختبار أو تجربة أو ربما مشادة مع زميل في العمل أو قد يحدث أن تتشاجر مشاجرة كبيرة مع أحد إخوتك أو أن تنفصل عن زوجك، هذا إلى جانب أحداث خارجية تطرأ فجأة دون سابق إنذار فتُحدث فيك اضطراباً، إن مجريات اليوم الطبيعية هي ذلك النمط الذي لا يحدث كلياً وفق تعاملنا الوحيد مع الأشخاص والأشياء بل لكل فعل تقوم به مع شخص هناك رد فعل يقابله، قد تقبل ذلك الرد فتتحول لمرحلة أخرى، أو قد تنتقل لمرحلة دون القبول، حيث تكون غير مستقرة، هنا تأتي طقوسنا اليومية تلك التي نصنعها لذواتنا مكافأة لنا أو تحفيزاً، أو ربما لتحدث التوازن الذي نريده ليس للاستقرار بل للتمكن وللعبور من مرحلة الضيق إلى الاتساع بسلاسة
مثال على ذلك: قراءة مجلة معينة يوميًا أو دورية معينة شهريًا أو حتى متابعة مسلسل أو برنامج بشكل مستمر، وقد يصل الأمر لطقوس أبسط من ذلك كأن تختار كوب قهوتك المفضل وتصنع قهوتك المحببة لترخي أعصابك وتأخذ نفساً جديداً لمواصلة الحياة
هنا في اللحظة التي تقرأ فيها لكاتبك المفضل أو تشرب فيها قهوتك المحببة لا يجب عليك إلا أن تغرق في تفاصيل الكتاب والنص الذي بين يديك لا أن تجذب كمغناطيس ما حصل أمس مع مديرك أو ما قد سيحدث في مشروعك غداً، هي تلك اللحظة التي تذوب فيها أنت بوعيك داخل الكتاب، قد تملأ أو تعيد شحن الضعف الذي يعتريك من ذلك الموقف فتكون أدركت بذلك التسليم، ومنحت ذاتك فرصة لمواصلة الحياة، عبر اللحظة أو الزمن المختزل فيها، واللحظة حقاً هي ما يمهنا و هي ما يكثف إحساسنا ويرسم معالم جديدة لشكل الحياة اليومية التي تصبح نمطاً
ثم إنه لا يجب الاكتفاء بطقس واحد أو اثنين بل إن إضافة طقس جديد بين فينة وأخرى ثم تحويله لممارسة تصبح مع الوقت عادة تصقل بها اليوم والذات، و يتحسن بها وعبرها المزاج، وينضج بها الفكر والوعي
يقول ايكارت تول: “إذا كنت لا تستطيع الاستسلام، تصرّف فوراً
تكلّم أو افعل شيئاً ما لتحدث تغييراً في الوضع – أو انتقل منه
كن مسؤولا عن حياتك
لا تلوث وجودك الداخلي الجميل والمتألق ولا تلوث الأرض بسلبيتك”.